فصل: تفسير الآيات رقم (10- 13)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 107‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏وكذلك أَخْذُ رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ هكذا عقوبة ربك، ‏{‏إِذَا أَخَذَ القرى‏}‏ يعني‏:‏ إِذا عاقب القرى، ‏{‏وَهِىَ ظالمة‏}‏ يعني‏:‏ أهلها كفار، جاحدون بوحدانية الله تعالى‏.‏ قرأ عاصم الجحدري‏:‏ ‏{‏إِذْ * أَخَذَ‏}‏، بألف واحدة، لأن إذ تستعمل للماضي، وإذا تستعمل للمستقبل، وهذه حكاية من الماضي، يعني‏:‏ حين أخذ ربك القرى‏.‏ وهي قراءة شاذة، وقراءة العامة‏:‏ ‏{‏إِذَا أَخَذَ‏}‏ بألفين، ومعناه‏:‏ أخذ ربك متى أخذ القرى‏.‏

ثم قال ‏{‏إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏ يعني‏:‏ عقوبته مؤلمة شديدة‏.‏ وروى أبو موسى الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة‏}‏ الآية‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ يعني‏:‏ في الذي أخبرتك عن الأمم الخالية لعبرة، ‏{‏لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخرة‏}‏ ويقال‏:‏ في عذابهم موعظة، وعبرة بالغة لمن آمن بالله، واليوم الآخر‏.‏ ويقال‏:‏ فيه عبرة لمن أيقن بالنار، وأقرّ بالبعث ‏{‏ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس‏}‏ يعني‏:‏ مجموع فيه الأولون والآخرون ‏{‏وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ يشهده أهل السموات، وأهل الأرض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ‏}‏ يعني‏:‏ إلى حين معلوم‏.‏ ويقال‏:‏ لانقضاء أيام الدنيا‏.‏ ومعناه‏:‏ أنا قادر على إقامتها الآن، ولكن أؤخرها إلى وقت معدود، ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ‏}‏ يعني‏:‏ إذا جاء يوم القيامة، ويقال‏:‏ يوم يأْت ذلك اليوم، ‏{‏لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ يعني‏:‏ لا تتكلم نفس بالشفاعة، إلا بأمره، ويقال‏:‏ معناه‏:‏ لا يجترئ أحد أن يتكلم من هيبته، وسلطانه بالاحتجاج، وإقامة العذر إلا بإذنه‏.‏

قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ‏}‏ بغير ياء في الوصل والقطع، وقرأ الباقون‏:‏ بالياء عند الوصل‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ القراءة عندنا على حذف الياء، في الوصل والوقف‏.‏ قال‏:‏ ورأيت في مصحف الإمام عثمان‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ‏}‏ بغير ياء، وهي لغة هذيل‏.‏ قال‏:‏ وروي عن عثمان، أنه عرض عليه المصحف، فوجد حروفاً من اللحن، فقال‏:‏ لو كان الكاتب من ثقيف، والمملي من هذيل، لم توجد فيه هذه الحروف، فكانت قدم هذيلاً في الفصاحة‏.‏

ثم قال ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة من الناس شَقِيٌّ معذب في النار، وسعيد، يعني‏:‏ مكرم في الجنة‏.‏ قوله تعالى ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ‏}‏ يعني‏:‏ كتب عليهم الشقاوة، ‏{‏فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏}‏ قال الربيع بن أنس الزَّفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ زفير كزفير الحمار، وهو أول ما ينهق الحمار والشهيق، وهو أول ما يفرغ من نهيقه في آخره‏.‏

ويقال‏:‏ زفير وشهيق، معناه‏:‏ أنيناً وصراخاً، ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ مقيمين دائمين في النار ‏{‏مَا دَامَتِ *** السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ سماء الجنة وأرضها‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ يعني‏:‏ إلا من أخرجهم منها وهم الموحدون‏.‏

وقال الكلبي، ومقاتل‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ *** السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ كما تدوم السموات والأرض، لأهل الدنيا، فكذلك يدوم الأشقياء في النار ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ أي‏:‏ الموحدون، يخرجون من النار‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ سماء القيامة وأرضها، وهما باقيتان‏.‏ ويقال‏:‏ العرب كانت من عادتهم، أنهم إذا ذكروا الأبد يقولون‏:‏ ما دامت السموات والأرض، فذكر على عادتهم، ومعناه‏:‏ إنهم خالدون فيها أبداً‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏ إن شاء أدخل النار خالداً، وإن شاء أخرجه إن كان موحداً، وأدخله الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 112‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص‏:‏ ‏{‏سُعِدُواْ‏}‏ بضم السين‏.‏ وقرأ الباقون بنصب السين‏.‏ فمن قرأ بالنصب، فمعناه‏:‏ الذين استوجبوا السعادة في الجنة، ومن قرأ بالضم، فمعناه‏:‏ وأما الذين سُعِدُوا، أي قدر لهم السعادة، وخلقوا للسعادة ‏{‏فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ *** السموات والارض *** إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ أن يحبس في المحشر، وعلى الصراط‏.‏ ويقال‏:‏ الذين شقوا يعني‏:‏ الكفار، والذين سعدوا المؤمنين، ومعناه‏:‏ الكفار في النار إلا ما شاء الله أن يسلموا، والمؤمنون في الجنة إلا ما شاء الله أن يرجعوا عن الإسلام‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ يعني‏:‏ قد شاء ربك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ يعني‏:‏ رزقاً غير منقطع عنهم، ولا ينقص من ثمارهم، ولا من نعمتهم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ في شك ‏{‏مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء‏}‏ إن الله تعالى يعاقبهم بذلك، ‏{‏مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ لا يرغبون في التوحيد، كما لم يرغب آباؤهم من قبل، الذين هلكوا، ‏{‏وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ‏}‏ يعني‏:‏ نوف لهم ولآبائهم حظهم، من العذاب غير منقوص عنهم، وهو قول مقاتل‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ نصيبهم من الكتاب، الذي كتب في اللوح المحفوظ، من السعادة والشقاوة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما قدر لهم من خير، أو شر‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ أعطينا موسى التوراة ‏{‏فاختلف فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ آمن به بعضهم وكفر به بعضهم، وهذا تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى يصبر كما صبر موسى على تكذيبهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ وجب قول ربك بتأخير العذاب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لجاءهم العذاب، ولفرغ من هلاكهم، ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ من القرآن، ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ يعني‏:‏ ظاهر الشك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كُلاًّ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏وَإِن كُلُّ‏}‏ بجزم النون، وقرأ الباقون بالنصب والتشديد‏.‏ فمن قرأ بالجزم، معناه‏:‏ وما كل إلا ليوفينهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 32‏]‏ يعني‏:‏ ما كلٌ‏.‏ ومن قرأ بالتشديد، يكون إنَّ لتأكيد الكلام‏.‏ وقرأ حمزة، وابن عامر وعاصم، في رواية حفص‏:‏ ‏{‏لَّمّاً‏}‏ بتشديد الميم، وقرأ الباقون بالتخفيف، فمن قرأ بالتخفيف، يكون لصلة الكلام، ومعناه‏:‏ وإنَّ كلاً ليوفينهم، فتكون ما صلة كقولهم‏:‏ عما قليل، يعني‏:‏ عن قليل‏.‏ ومن قرأ بالتشديد‏:‏ يكون بمعنى إلاَّ، يعني‏:‏ وإنَّ كُلاً إلا ليوفينهم، كقوله‏:‏

‏{‏إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 4‏]‏ فمن قرأ بالتشديد كتلك الآية، يكون معناه‏:‏ إلا عليها حافظ‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إن كلا الفريقين ‏{‏لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ‏}‏ ثواب ‏{‏أعمالهم‏}‏ بالخير خيراً، وبالشر شراً‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ من الخير والشر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ يعني‏:‏ استقم على التوحيد، والطاعة كما أمرت ‏{‏وَمَن تَابَ مَعَكَ‏}‏ أيضاً يستقيموا على التوحيد ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ‏}‏ أي‏:‏ لا تعصوا الله، في التوحيد وطاعته‏.‏

‏{‏إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ قال‏:‏ حدّثنا محمد بن الفضل، قال‏:‏ حدّثنا محمد بن جعفر، قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم بن يوسف، قال‏:‏ حدّثنا أبو حفص، عن سعيد، عن قتادة، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ قال‏:‏ إن الله تعالى أمر بالاستقامة على التوحيد، وأن لا يطغى في نعمته‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ يعني‏:‏ امضِ على ما أمرت به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 115‏]‏

‏{‏وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار‏}‏ قال قتادة‏:‏ ولا ترجعوا إلى الشرك، فتمسكم النار، يعني‏:‏ تصيبكم النار، وقال أبو العالية‏:‏ ولا ترضوا بأعمال أهل البدع‏.‏ والركون‏:‏ هو الرضا‏.‏ ويقال‏:‏ ولا تميلوا إلى دين الذين كفروا‏.‏ ويقال‏:‏ ولا ترضوا قول الذين ظلموا‏.‏ وروى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، لِيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلِ»‏.‏ وعن عبد الله بن مسعود، أنه قال‏:‏ اعتبروا الناس بأخدانهم‏.‏

ثم قال ‏{‏وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ يعني‏:‏ حين تمسكم النار، لم يكن لكم من عذاب الله من أولياء يعني‏:‏ من أقرباء ينفعنكم، ‏{‏ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا تمنعون من العذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتل مَا‏}‏ يعني‏:‏ واستقم كما أمرت، وأقم الصلاة، أي‏:‏ أتممها، ‏{‏طَرَفَىِ النهار‏}‏ صلاة الفجر، والظهر، والعصر، ‏{‏وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ يعني‏:‏ دخولاً من الليل، ساعة بعد ساعة، واحدها زلفة، وهي صلاة المغرب، والعشاء، ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ يعني‏:‏ الصلوات الخمس، يكفرن السيئات فيما دون الكبائر، ‏{‏ذلك ذكرى لِلذكِرِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الصلوات الخمس توبة للتائبين‏.‏

قال الكلبي‏:‏ نزلت الآية في عمرو بن غزية الأنصاري، ويقال‏:‏ نزلت في شأن أبي اليسر، كان يبيع التمر، فجاءته امرأة تشتري تمراً، فأدخلها في الحانوت، وفعل بها كل شيء إلا الجماع، ثم ندم، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏ ويقال‏:‏ نزلت في شأن أبي مقبل التمار‏.‏ وروي عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إني لقيت امرأة في البستان فضممتها إليَّ، وقبلتها وفعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل، وقرأها عليه، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أله خاصة أم للناس كافة‏؟‏ قال‏:‏ «بل للناس كافة»‏.‏ وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان، قال‏:‏ كنت مع سلمان، فأخذ غصناً من شجرة يابسة، فحته، ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «مَنْ تَوَضّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتّ هذا الوَرَقُ» ثم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار‏}‏ إلى آخرها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر‏}‏ يا محمد، على التوحيد، ولا تركن إلى الظلمة، واصبر على ما أصابك ويقال‏:‏ واصبر، أي أقم على هذه الصلوات الخمس، حتى لا تترك منها شيئاً، ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ يعني‏:‏ ثواب الموحِّدين المخلصين‏.‏ ويقال المقيمين على الصّلوات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَ‏}‏ يعني‏:‏ فهلا كان ‏{‏مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ *** بَقِيَّتُ‏}‏ يعني‏:‏ ذوو بقية من آمن وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ فلم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية، يعني‏:‏ ذو بقية من دين، ‏{‏يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الارض إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ‏}‏ وهم الذين ينهون عن الفساد في الأرض‏.‏ وقال القتبي‏:‏ فهلا أولو بقية من دين، يقال‏:‏ قوم لهم بقية، إذا كان فيهم خير‏.‏ قال القتبي‏:‏ إذا رأيت «فلولا» بغير جواب، يريد به هلا، كقوله‏:‏ ‏{‏فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ جعل «لولا» هاهنا‏.‏ وفي سورة يونس، بمعنى لم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ أولو تمييز، ويجوز أولو طاعة وفضل‏.‏ ومعنى بقية‏:‏ إذا قلت في فلان بقية، معناه‏:‏ فيه فضل، فيما يمدح به‏.‏

‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ‏}‏ استثناء منقطع، والمعنى‏:‏ لكن قليلاً ممن أنجينا ممن ينهي عن الفساد‏.‏ وروى سيف بن سليمان المكي، بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ العَامَّةَ بِعَمَلِ الخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا المُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهمْ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أنْ يُنْكِرُوهُ، فَلاَ يُنْكِرُونَهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَذَّبَ الخَاصَّةَ وَالعَامَّةَ ‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واتبع الذين ظَلَمُواْ‏}‏ يقول‏:‏ اشتغل الذين كفروا ‏{‏مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ ما أنعموا وأعطوا من المال‏.‏ ويقال‏:‏ ارتكبوا على ما خولوا في الدنيا، واشتغلوا عما سواها من أمر الآخرة ويقال‏:‏ ‏{‏واتبع الذين ظَلَمُواْ‏}‏ يعني‏:‏ السفلة، ما أترفوا، يعني‏:‏ من أترفوا، وهم القادة والرؤساء‏.‏ وقال الفراء‏:‏ اتبعوا في دنياهم، ما عودوا من النعيم، وإيثار الدنيا على الآخرة‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مشركين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ‏}‏، يعني‏:‏ لم يكن ربك يعذب أهل قرية، ‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏ بغير جرم، ‏{‏وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏ يعني‏:‏ موحِّدين مطيعين‏.‏ وروي عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ ما أهلك الله قوماً إلا بعملهم، ولم يهلكهم بالشرك، يعني‏:‏ لم يهلكهم بشركهم وهم مصلحون، لا يظلم بعضهم بعضاً، لأن مكافأة الشرك النار، لا دونها، وإنما أهلكهم الله بمعاصيهم، زيادة على شركهم، مثل قوم صالح بعقر الناقة، وقوم لوط بالأفعال الخبيثة، وقوم شعيب بنقصان الكيل والوزن، وقوم فرعون بإيذائهم موسى عليه السلام وبني إسرائيل‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ فيهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لم يكن ليهلكهم، وهم يتعاطون الحق فيما بينهم، وإن كانوا مجرمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 120‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ يقول‏:‏ لجمع الناس على أمة الإسلام، وأكرمهم بدين الإسلام كلهم، ولكن علم أنهم ليسوا بأهل لذلك، ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ يعني‏:‏ عصم ربك من الاختلاف‏.‏ وقال عطاء‏:‏ ولا يزالون مختلفين، يعني‏:‏ اليهود والنصارى، والمجوس، إلا من رحم ربك الحنيفية ‏{‏ولذلك خَلَقَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الحنيفية خلقهم للرحمة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لذلك خلقهم، يقول‏:‏ للاختلاف، هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ولذلك خلقهم، يعني‏:‏ فريقين، فريقاً يرحم ولا يختلف، وفريقاً لا يرحم ويختلف‏.‏ ويقال‏:‏ ولذلك خلقهم، يعني‏:‏ للأمر والنهي، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ يعني‏:‏ للأمر والنهي، وقال الضحاك‏:‏ وللرحمة خلقهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ وللرحمة خلقهم، وهو الإسلام‏.‏ وروى حماد بن سلمة، عن الكلبي قال‏:‏ خلقهم أهل الرحمة، أن لا يختلفوا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ولذلك خلقهم للرحمة، والعبادة، ولا يزالون مختلفين‏.‏ يقول‏:‏ لا يزال أهل الأديان مختلفين في دين الإسلام‏.‏

ثم استثنى بعضاً‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ وهم المؤمنون أهل الحق، ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ‏}‏ يقول‏:‏ سبق ووجب قول ربك للمختلفين، ‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ فهذا لام القسم فكأنه أقسم أن يملأ جهنم، من كفار الجنة والناس أجمعين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل‏}‏ يعني‏:‏ ننزل عليك من أخبار الرسل ‏{‏مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ يقول‏:‏ ما نشدد به قلبك، ونحفظه، ونعلم أن الذي فعل بك، قد فعل بالأنبياء قبلك، ‏{‏وَجَاءكَ فِى هذه الحق‏}‏ قال قتادة‏:‏ أي‏:‏ في الدنيا‏.‏ وقال ابن عباس يعني‏:‏ في هذه السورة‏.‏ وروى سعيد بن عامر، عن عوف، عن أبي رجاء، قال‏:‏ خطبنا ابن عباس على منبر البصرة، فقرأ سورة هود وفسرها، فلما أتى على هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَجَاءكَ فِى هذه الحق‏}‏ قال‏:‏ في هذه السورة‏.‏ وقال سعيد بن جبير، وأبو العالية، ومجاهد مثله‏.‏ وهكذا قال مقاتل‏:‏ عن الفراء‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةً‏}‏ يعني‏:‏ تأدبة لهذه الأمة، ‏{‏وذكرى‏}‏ يعني‏:‏ عظة وعبرة، ‏{‏لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ المصدقين بتوحيد الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 123‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يصدقون بتوحيد الله تعالى، ‏{‏واعملوا * على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ في منازلكم على إهلاكي، ‏{‏إِنَّا عَامِلُونَ‏}‏ في أمركم، ‏{‏وانتظروا‏}‏ بهلاكي، ‏{‏إِنَّا مُنتَظِرُونَ‏}‏ بكم العذاب والهلاك، فهذا تهديد لهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ *** السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ غيب نزول العذاب، متى ينزل بكم، ويقال‏:‏ سر أهل السموات وسر أهل الأرض ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ‏}‏ يعني عواقب الأمور كلها ترجع إليه يوم القيامة ‏{‏فاعبده‏}‏ يقول‏:‏ أطعه واستقم على التوحيد، ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ يقول‏:‏ فوض إليه جميع أمورك، ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الذي يفعل الكفار‏.‏ قرأ نافع، وعاصم، في رواية حفص‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ‏}‏ بضم الياء ونصب الجيم، على معنى فعل ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الجيم، فيكون الفعل للأمر‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، في رواية حفص‏:‏ ‏{‏عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ بالتاء على وجه المخاطبة، وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة، وروي عن كعب الأحبار، أنه قال‏:‏ خاتمة التوراة هذه الآية ‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ *** السموات والارض‏}‏ إلى آخر السورة والله سبحانه أعلم‏.‏

سورة يوسف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الر تِلْكَ‏}‏ وذلك أن اليهود والنصارى، قالوا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سلوا صاحبكم عن انتقال يعقوب، وأولاده من كنعان إلى مصر، ومبدأ أمرهم، فنزل‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ يقول‏:‏ أنا الله أرى، وأسمع سؤالهم إياك يا محمد، عن هذه القصة‏.‏ ويقال معناه‏:‏ أنا الله أرى صنيع إخوة يوسف، ومعاملتهم معه‏.‏ ويقال‏:‏ أنا الله أرى ما يرى الخلق، وما لا يرى ‏{‏تِلْكَ ءايات الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ حججه وبراهينه‏.‏ ويقال‏:‏ هذه الآيات، التي وعدتكم في التوراة، أن أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعدهم بأن ينزل عليه كتاباً، في كثير من أوائل سوره حروف الهجاء‏.‏ ‏{‏المبين‏}‏ يعني‏:‏ مبين حلاله وحرامه‏.‏ ويقال‏:‏ بَيَّنَ فيه خبر يوسف وإخوته‏.‏ وروى معمر، عن قتادة، قال‏:‏ بَيَّنَ الله رشده وهداه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا‏}‏ يقول‏:‏ إنا أنزلنا جبريل ليقرأ على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، بلسان العرب، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لعلكم تفهمون ما فيه‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص‏}‏ وذلك أن المسلمين، قالوا لسلمان‏:‏ أخبرنا عن التوراة، فإن فيها العجائب‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص‏}‏ في هذا القرآن، ويقال‏:‏ لا يصح هذا، لأن سلمان أسلم بالمدينة، وهذه السورة مكية‏.‏ ولكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تمنوا نزول سورة، لا يكون فيها أمر ونهي وأحكام، فنزلت هذه السورة‏.‏ ويقال‏:‏

كانت اليهود تفاخروا بأن لهم قصة يوسف مذكورة في التوراة، فنزلت هذه السورة أفصح من لغة اليهود، لذهاب افتخارهم على المسلمين‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص‏}‏ سماه الله في ابتدائه أحسن القصص، وفي آخره عبرة، فقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الألباب مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَئ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ ينزل عليك جبريل بأحكم الخبر، ‏{‏بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ يقول‏:‏ بالذي أوحينا إليك‏.‏ ويقال‏:‏ بوحينا إليك ‏{‏هذا القرءان وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ وقد كنت من قبل أن ينزل عليك القرآن، ‏{‏لَمِنَ الغافلين‏}‏ عن خبر يوسف، لم تعلمه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاِبِيهِ ياأبت‏}‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏***يا أبتَ‏}‏ بنصب التاء، في جميع القرآن، لأن أصلها يا أبتاه‏.‏ وقرأ الباقون بالكسر، لأجل الإضافة‏.‏ ‏{‏لاِبِيهِ ياأبت إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ‏}‏ يعني‏:‏ رأيت في المنام كأن أحد عشر كوكباً، نزل من السماء والشمس والقمر نزلا من السماء يسجدون لي‏.‏ وروي عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال‏:‏ الكواكب إخوته، والشمس والقمر أبواه‏.‏ وقال معمر‏:‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ أبوه وخالته‏.‏ وفي رواية الكلبي‏:‏ رؤياه كانت ليلة القدر، في ليلة الجمعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ بَنِى لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ‏}‏ فلمّا قصّها على أبيه، انتهره وزجره، وقال ليوسف في السر‏:‏ إذا رأيت رؤيا بعد هذا، فلا تقصها على إخوتك ‏{‏فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا‏}‏ يعني‏:‏ يعملوا بك عملاً، ويحتالوا بك حيلة في هلاكك فإن قيل قوله‏:‏ ‏{‏رَأَيْتَهُمْ‏}‏ هذا اللفظ يستعمل في العقلاء، وفي غير العقلاء، يقال‏:‏ رأيتها ورأيتهن، فكيف قال ههنا‏:‏ رأيتهم‏؟‏ قيل له‏:‏ لأنه حكى عنها الفعل الذي يكون من العقلاء، وهي السجدة‏.‏ فذكر باللفظ الذي يوصف به العقلاء‏.‏

‏{‏إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة‏.‏ قرأ أبو جعفر القاريء المدني، ‏{‏أَحَدَ عَشَرَ‏}‏ بجزم العين، وقراءة العامة ‏{‏أَحَدَ عَشَرَ‏}‏ بالنصب‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هكذا تقرؤها، لأنها أعرف اللغتين، والناس عليه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ‏}‏ يقول‏:‏ يصطفيك ويختارك بالنبوة‏.‏ قال‏:‏ بالحسن، والجمال، والمحبة في القلوب‏.‏ ‏{‏وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث‏}‏ يعني‏:‏ من تعبير الرؤيا‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ هي الكتب المنزلة‏.‏ ويقال‏:‏ عواقب الأمور، يعني‏:‏ يفهمك حتى تكون عالماً بعواقبها ‏{‏وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ يثبتك على الإسلام، ويقال‏:‏ بالنبوة والإسلام ‏{‏وعلى ءالِ يَعْقُوبَ‏}‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف ‏{‏كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وإسحاق‏}‏ وأكرمهما بالنبوة، وثبتهما على الإسلام‏.‏

قال الزجاج وقد فسّر له يعقوب الرؤيا، فالتأويل أنه لما قال يوسف‏:‏ ‏{‏إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا‏}‏ تأول لأحد عشر نفساً لهم فضل وأنهم يستضاء بهم، لأن الكواكب لا شيء أضوء منها، وتأول الشمس والقمر أبويه، فالقمر الأب، والشمس الأم، والكواكب إخوته، فتأول ليوسف أنه يكون نبياً، وأن إخوته يكونون أنبياء، لأنه أعلمه أن الله تعالى يتم نعمته عليه، وعلى إخوته، كما أتمها على أبويه إبراهيم وإسحاق‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ‏}‏ حين رأى إبراهيم في المنام ذبح ابنه، فأمره الله تعالى أن يفديه‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يجعل الجد أباً، ثم يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ عليم بما صنع به إخوته، حكيم بما حكم من إتمام النعمة عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايات لّلسَّائِلِينَ‏}‏ قرأ ابن كثير‏:‏ «آية» بلفظ الوحدان، وهكذا قرأ مجاهد‏.‏ يعني‏:‏ فيه علامة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون‏:‏ «آيات» بلفظ الجماعة، وهذا موافق لمصحف الإمام عثمان‏.‏ حكى أبو عبيدة‏:‏ أنه رأى في مصحف الإمام هكذا، ومعنى الآية‏:‏ أن في خبر يوسف، وإخوته عبرة وموعظة لمن سأل عن أمرهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن حبراً من أحبار اليهود، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وكان قارئاً للتوراة، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة يوسف كما أنزلت في التوراة، فقال له الحبر‏:‏ يا محمد، من علمكها‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الله علمنيها‏.‏ فرجع الحبر إلى اليهود، فقال لهم‏:‏ أتعلمون، والله إن محمداً يقرأ سورة يوسف كما أنزلت في التوراة‏؟‏ فانطلق بنفرٍ منهم حتى جاؤوا، ودخلوا عليه، فجعلوا يستمعون إلى قراءته، ويتعجبون، فقالوا‏:‏ يا محمد، من علمكها‏؟‏ قال‏:‏ الله علمنيها، فنزلت‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايات لّلسَّائِلِينَ‏}‏‏.‏

وكان بدء أمرهم أن يعقوب عليه السلام كان مع خاله، وكان لخاله ابنتان إحداهما «لايا»، ويقال‏:‏ «لاواه»، وهي أكبرهما، والأخرى «راحيل» وهي أصغرهما، فخطب يعقوب إلى خاله بأن يزوجه إحداهما، فقال له خاله‏:‏ هل لك مال‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن أعمل لك‏.‏ قال‏:‏ صداقها أن ترعى لي سبع سنين‏.‏ وفي بعض الروايات، قال‏:‏ أن تخدمني سبع سنين‏.‏ فقال يعقوب‏:‏ أخدمك سبع سنين، على أن تزوجني راحيل، وهي شرطي، قال‏:‏ ذلك بيني وبينك، فرعى له يعقوب سبع سنين، فلما قضى الأجل زفت إليه الكبرى، وهي لايا‏.‏ قال يعقوب‏:‏ إنك خدعتني، وإنما أردت راحيل، فقال له خاله‏:‏ إنا لا ننكح الصغيرة قبل الكبيرة، فهلمَّ فاعمل لي سبع سنين أخرى، أزوجك أختها، وكان الناس يجمعون بين الأختين، إلى أن بعث الله موسى عليه السلام‏.‏

فرعى له سبع سنين، فزوجه راحيل، فجمع بينهما، وكان خاله حين جهزها دفع إلى كل واحدة منهما أمة تخدمها، فوهبتا الأمتين ليعقوب‏.‏ فولدت لايا أربعة بنين، وولدت راحيل اثنين، وولدت كل واحدة من الأمتين ثلاثة بنين، فجملة بنيه اثنا عشر سوى البنات‏.‏

قال الفقيه أبو الليث‏:‏ سمعت أهل التوراة يقولون إن أسماء أولاد يعقوب مبينة في التوراة‏:‏ روبيل، وشمعون، ويهوذا، ولاوي، فهؤلاء من امرأته لايا‏.‏ ويوسف، وبنيامين، من امرأته الأخرى راحيل‏.‏ والستة الباقون من الأمتين‏:‏ خورية، وبالعربية يساخر، وزبلون وبالعربية زبالون، ودون، ونفتال، وحوذ وبالعربية حاذ، وروى بعضهم‏:‏ خاذ بالخاء، وأوشر‏.‏ فأراد يعقوب أن يخرج إلى بيت المقدس، ولم يكن له نفقة، وكان ليوسف خال له أصنام من ذهب، فقالت لايا ليوسف‏:‏ اذهب واسرق من أصنامه، فلعلنا نستنفق به‏.‏

فذهب يوسف فأخذها، وكان يوسف أعطف على أبيه، وكان أحب أولاده إليه‏.‏ فحسده إخوته مما رأوا من حب أبيه له‏.‏

ورأى يوسف في المنام، أن أحد عشر كوكباً، والشمس، والقمر ساجدين له ‏{‏إِذْ قَالُواْ‏}‏ عند ذلك ‏{‏لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ‏}‏ بنيامين، ‏{‏أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ جماعة عشرة، فهو يؤثرهما علينا، في المنزلة والحب، ‏{‏إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ في خطأ بَيِّنٍ في حب يوسف وأخيه، حيث قدم الصغيرين في المحبة علينا، ونحن جماعة، ونفعنا أكثر من نفعهما‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان فضل حُسْنِ يوسف على الناس في زمانه، كفضل القَمَرِ ليلة البدر على سائر الكواكب‏.‏ وقال القتبي‏:‏ العصبة‏:‏ ما بين العشرة إلى الأربعين‏.‏

ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضًا‏}‏ بعيداً من أبيكم ‏{‏يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ ليقبل لكم أبوكم بوجهه، ويصف لكم وجهه‏.‏ ويقال‏:‏ يصلح حالكم عند أبيكم، وتكونوا من بعدِهِ قوماً صالحين‏.‏ يعني‏:‏ تصلح أحوالكم عند أبيكم، بعد ذهاب يوسف‏.‏ ويقال‏:‏ وتكونوا من بعد هلاكه قوماً تائبين إلى الله تعالى‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ هكذا يكون المؤمن يهيئ التوبة قبل المعصية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من إخوة يوسف ‏{‏لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ‏}‏ فإن قتله عظيم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كان صاحب هذا القول‏:‏ يهوذا، لم يكن أكبرهم، ولكن كان أعقلهم‏.‏ وقال قتادة، والضحاك‏:‏ صاحب هذا القول‏:‏ روبيل، وكان أكبر القوم سناً‏.‏ ‏{‏وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب‏}‏ يعني اطرحوه في أسفل الجب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الغيابة كل ما غاب عنك أو غيب شيئاً عنك‏.‏ قرأ نافع‏:‏ غيابات بلفظ الجماعة، وقرأ الباقون غَيَابَة، لأن المعنى على موضع واحد‏.‏ وروي عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏غَيَابَةِ الجب‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الجُبُّ‏:‏ البئر‏.‏ التي ليست بمطوية سميت جُبًّا، لأنها قطعت قطعاً، ولم يحدث فيها غير القطع‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة‏}‏ يعني‏:‏ يأخذه بعض من يمر عليه من المسافرين ‏{‏إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ يعني‏:‏ إن كنتم لا بد فاعلين من الشر الذي تريدون‏.‏ وروي عن الحسن، ومجاهد، أنهما قرآ‏:‏ ‏{‏***تلتقطه‏}‏ بالتاء، ومعناه‏:‏ تلتقطه السيارة، وينصرف إلى المعنى‏.‏ فلما قال لهم ذلك يهوذا أو روبيل، أطاعوه في ذلك، وجاؤوا إلى أبيهم و‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا *** أَبَانَا * مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ‏}‏ أن ترسله معنا، ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لناصحون‏}‏ يعني‏:‏ لحافظون‏.‏ ويقال‏:‏ محبون مشفقون‏.‏ قرأ أبو جعفر القارئ المدني‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْمَنَّا‏}‏ بجزم النون، وقرأ الباقون بإشمام النون إلى الرفع، لأن أصلها تأمننا، فأدغمت إحداهما في الأخرى، وأقيم التشديد مقامه، وبقي رفعه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً‏}‏ يعني‏:‏ أخوة يوسف قالوا لأبيهم‏:‏ أرسل يوسف معنا إلى الغنم ‏{‏يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يحفظ بعضنا بعضاً، ونتحارس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نشط، ونسعى، ونلهو‏.‏ وقال القتبي‏:‏ من قرأ بتسكين العين، أي نأكل يقال‏:‏ رتعت الإبل إذا رعت، ومن قرأ بكسر العين، أراد به نتحارس، ويرعى بعضنا بعضاً، أي‏:‏ يحفظ‏.‏ قرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏***نَرْتَعِ‏}‏ بالنون وكسر العين، ‏{‏نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏ بالنون‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ ‏{‏يَرْتَعْ‏}‏ بالياء وكسر العين، وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم‏:‏ ‏{‏يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ‏}‏ بالياء وجزم العين، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏ بالنون وجزم العين‏.‏ واتفقوا في جزم الباء‏.‏

قال أبو عبيدة، قلت لأبي عمرو‏:‏ كيف يقولون نلعب وهم أنبياء‏؟‏ قال‏:‏ لم يكونوا يومئذٍ أنبياء‏.‏ قال أبو الليث رحمه الله‏:‏ لم يريدوا به اللعب الذي هو منهيّ عنه، وإنما أرادوا به المطايبة في خروجهم، وفيه دليل أن القوم إذا خرجوا من المصر، فلا بأس بالمطايبة والمزاح، في غير مأثم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ‏}‏ يعني‏:‏ يجيء ويذهب، حتى يتشجع ويترجل‏.‏ ويقال‏:‏ حتى نجمع النفع والسرور‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ لا يصيبه أذًى ولا مكروه، وإنا مشفقون عليه ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم يعقوب‏:‏ ‏{‏إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ ذهابكم به ليحزنني‏.‏

قرأ نافع‏:‏ ‏{‏لَيَحْزُنُنِى‏}‏ بضم الياء وكسر الزاي، وقرأ الباقون بنصب الياء، وضم الزاي‏.‏ ومعناهما واحد‏.‏ ثم قال ‏{‏وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب‏}‏ يعني‏:‏ أخاف أن تضيعوه فيأكله الذئب، ‏{‏وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون‏}‏ يعني‏:‏ مشغولين في أمركم‏.‏ قرأ أبو عمرو، والكسائي، ونافع، في رواية ورش‏:‏ ‏{‏***الذِّيبُ‏}‏ بغير همز‏.‏ وقرأ الباقون بالهمز، وهما لغتان‏.‏ وروي عن بعض الصحابة، أنه قال‏:‏ لا ينبغي أن يلقن الخصم بحجة، لأن إخوة يوسف كانوا لا يعلمون أن الذئب يأكل الناس، إلى أن قال ذلك يعقوب، وإنما قال ذلك يعقوب، لأنه رأى في المنام أن ذئباً كان يعدو على يوسف فأنجاه بنفسه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف ‏{‏لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ جماعة عشرة ‏{‏إِنَّا إِذَا لخاسرون‏}‏ يعني‏:‏ لعاجزين‏.‏ فلما قالوا ذلك رضي بخروجه، فبعثه معهم، وأوصاهم عند خروجه، أن يحسنوا إليه، ويتعاهدوا أمره، ويردوه إذا طلب الرجوع‏.‏ فقبلوا ذلك منه‏.‏ ويقال‏:‏ إنه أبى أن يرسله معهم، حتى أتوا يوسف، فقالوا له‏:‏ اطلب من أبيك ليبعثك معنا، وطلب يوسف ذلك من أبيه، فبعثه معهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ فلما برزوا به إلى البَريَّة ‏{‏وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب‏}‏ يقول‏:‏ واتفقوا أن يلقوه في أسفل الجب، ثم أظهروا له العداوة فجعل أحدهم يضربه فيستغيث، فيضربه الآخر، فجعل لا يرى منهم رحيماً، فضربوه حتى كادوا يقتلونه‏.‏ فقال يهوذا‏:‏ أليس قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه‏؟‏ فانطلقوا به إلى الجب، وهي بئر على رأس فرسخين من كنعان، ويقال‏:‏ أربع فراسخ، فجعلوا يدلونه في البئر، فيتعلق بشفة البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه‏.‏ فقال‏:‏ يا إخوتاه، ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجب، فقالوا‏:‏ ادع الأحد عشر كوكباً، والشمس، والقمر يؤنسوك فدلوه في البئر، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه، وأرادوا أن يموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة في البئر، وقام عليها وجعل يبكي‏.‏ فجاءه جبريل يؤنسه ويطعمه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لتخبرهم ‏{‏بِأَمْرِهِمْ هذا‏}‏ يعني‏:‏ بصنيعهم هذا بمصر ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يعرفونك بمصر‏.‏ ويقال‏:‏ معناه وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا، وهم لا يشعرون، أن الله تعالى أوحى إليه، وهم لا يعرفون‏.‏ ويقال‏:‏ لما أرادوا أن يلقوه في البئر، تعلق بإخوته، فقال له جبريل‏:‏ لا تتعلق بهم فإنك تنجو من البئر‏.‏ فألقوه حتى وقع في قعرها، فارتفع حجر حتى قام عليه، ثم إنهم أخذوا جدياً من الغنم فذبحوه، ثم لطخوا القميص بدمه‏.‏

‏{‏وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أقبلوا إلى أبيهم عشاء يبكون، فلما سمع أصواتهم يعقوب، فزع وقال‏:‏ يا بني ما لكم ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا *** أَبَانَا * إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ‏}‏ يعني‏:‏ ويقال‏:‏ نتصيَّد ننتضل، أي يسابق بعضنا البعض في الرمي، ‏{‏وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب‏}‏ فلما قالوا هذا القول‏:‏ بكى يعقوب، وصاح بأعلى صوته‏:‏ ثم قال‏:‏ أين قميصه‏؟‏ فأخذ القميص وبكى، ثم قال إن هذا الذئب كان بابني رحيماً، كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه‏؟‏ وروى سماك، عن عامر، أنه قال‏:‏ في قميص يوسف ثلاث آيات، حين قُدَّ قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه، فارتد بصيراً، وحين جاؤوا على قميصه بدم كذب، على أن الذئب لو أكله لخرق قميصه‏.‏

فقال لهم كذبتم، فقالوا له‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا‏}‏ يعني‏:‏ بمصدق لنا في مقالتنا ‏{‏وَلَوْ كُنَّا صادقين‏}‏ في مقالتنا ‏{‏وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ‏}‏ يعني‏:‏ بدم السخلة ولم يكن دم يوسف‏.‏ ويقال‏:‏ بدم كذب أي مكذوب به‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏بِدَمٍ‏}‏ بالدال، يعني‏:‏ بدم طري‏.‏ فأروه القميص بالدم ليعرف به، وهي قراءة شاذة، وقراءة العامة بالذال ‏{‏كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا‏}‏ يقول‏:‏ زينت واشتهت لكم أنفسكم أمراً، فضيعتموه ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ يعني‏:‏ على صبر جميل، بلا جزع‏.‏ ويقال‏:‏ معناه لا حيلة لي إلا الصبر‏.‏ ويقال‏:‏ فصبري صبر جميل‏.‏

وروي عن بعض الصحابة، أنه كان يقرأ ‏{‏سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏، يعني‏:‏ أصبر صبراً جميلاً‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن قوله ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ قال «صبر لا شكوى فيه، ومن بث فلم يصبر»‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والله المستعان على مَا تَصِفُونَ‏}‏ يقول‏:‏ أستعين بالله، وأطلب العون من الله، على ما تقولون، وتكذبون من أمر يوسف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ‏}‏ أي‏:‏ قافلة يمرون من قبل مدين إلى مصر، فنزلوا بقرب البئر، ‏{‏فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ طالب مائهم، ويقال‏:‏ أرسل كل قوم ساقيهم ليستقي لهم الماء، فجاء مالك بن ذعر إلى الجب، الذي فيه يوسف، ‏{‏فأدلى دَلْوَهُ‏}‏ يقول أرخى، وأرسل دلوه في البئر، فتعلق يوسف بالدلو، فنظر مالك بن ذعر، فإذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان‏.‏

‏{‏قَالَ يَاءادَمُ * بُشْرىً ***** هذا غُلاَمٌ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ ‏{‏***يَا بُشْرَايَ‏}‏ بالألف والياء، ونصب الياء، وقرأ عاصم‏:‏ ‏{‏الرياح بُشْرىً‏}‏ بنصب الراء وسكون الياء، وقرأ نافع، في رواية ورش‏:‏ بالألف والياء مع السكون ‏{‏***يَا بُشْرَايْ‏}‏، وكذلك يقرأ في ‏{‏رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ‏}‏ و‏{‏***مَحْيَايَ‏}‏ و‏{‏هِىَ عَصَاىَ‏}‏، بسكون بالياء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏***يَا بُشْرِي‏}‏ بغير ألف، وسكون الياء، وكسر الراء‏.‏

فمن قرأ‏:‏ ‏{‏***يا بشرَايَ‏}‏، يكون بمعنى الإضافة إلى نفسه، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏الرياح بُشْرىً‏}‏ يكون على معنى تنبيه المخاطبين، كقوله يا عجبَا، وإنما أراد به‏:‏ اعجبوا، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏الرياح بُشْرىً‏}‏، كأنه اسم رجل دعاه باسمه بشرى، وقال أبو عبيدة‏:‏ هذه القراءة تقرأ، لأنها تجمع المعنيين، إن أراد به الاسم، أو أراد به البشرى بعينها‏.‏

وقال السدي‏:‏ تعلق يوسف بالحبل، فخرج فلما رآه صاحب الدلو، نادى رجلاً من أصحابه، يقال له البشرى، وقال‏:‏ يا بشراي، هذا غلام‏.‏ وقال قتادة وغيره‏:‏ إنه بشر واردهم حين وجد يوسف‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّوهُ بضاعة‏}‏ يعني‏:‏ التُّجار بعضهم من بعض، وقال بعضهم لبعض‏:‏ اكتموه من أصحابكم لكيلا يسألوكم فيه شركة، فإن قالوا لكم ما هذا الغلام‏؟‏ قولوا‏:‏ استبضعنا بعض أهل الماء، لنبيعه لهم بمصر، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّوهُ بضاعة‏}‏ يعني‏:‏ أسروه، وأعلنوه بضاعة، فرجع إخوته بعد ثلاثة أيام، فرأوا يوسف في أيديهم، فقالوا‏:‏ هذا غلام أبق منا منذ ثلاثة أيام، فقيل لهم‏:‏ ما بال هذا الغلام لا يشبه العبيد، وإنما هو يشبهكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنما وُلِدَ في حجرنا وإنه ابن وليدة أمنا، أمرتنا ببيعه‏.‏ وقالوا ليوسف بلسانهم‏:‏ لئن أنكرت أنك عبد لنا، أخذناك ونقتلك‏.‏ أترى أنا نرجع بك إلى يعقوب أبداً، وقد أخبرناه أن الذئب قد أكلك‏.‏ فقال‏:‏ يا إخوتاه ارجعوا بي إلى أبي، ضامن لكم رضاه، وأنا لا أذكر لكم هذا أبداً‏.‏ فأبوا عليه فذلك قوله تعالى ‏{‏والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بما يصنع به إخوته‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَشَرَوْهُ‏}‏ بثمن، يعني‏:‏ باعوه ‏{‏بِثَمَنٍ بَخْسٍ‏}‏ يعني‏:‏ ظلماً وحراماً لم يحل بيعه‏.‏ ويقال‏:‏ بدراهم رديئة ويقال‏:‏ البخس‏:‏ الخسيس ‏{‏دراهم مَعْدُودَةٍ‏}‏ أي‏:‏ يسير عددها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ البخس القليل، والمعدودة‏:‏ عشرين درهماً، وقال‏:‏ كان في ذلك الزمان، ما كان فوق الأوقية، وزنوه وزناً وما كان دون الأوقية عدّوه عداً‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ باعوه بعشرة دراهم لأن اسم الدرهم يقع على ما بين الثلاثة إلى العشرة، فأصاب كل واحد منهم درهماً‏.‏

وروي عن الضحاك، أنه قال‏:‏ باعوه باثني عشر درهماً، وقال ابن مسعود بيع بعشرين درهماً، وقال عكرمة‏:‏ البخس‏:‏ أربعون درهماً، وقال بعضهم‏:‏ لم يبعه إخوته ولكن الذين وردوا الماء، وجدوه في البئر، وأخرجوه من البئر، فباعوه بثمن بخس، دراهم معدودة، وهو قول المعتزلة، لأن مذهبهم أن الأنبياء معصومون عن الكبيرة قبل النبوة، لأن الكبيرة عندهم تخرج المؤمن عن الإيمان، وعند أهل السنة، الكبيرة لا تخرج المؤمن عن الإيمان‏.‏ وجاز جريان المعصية قبل النبوة وقال عامة المفسرين‏:‏ إن إخوته باعوه وروي عن ابن عباس‏:‏ أن إخوته باعوه بعشرين درهماً، وكتب يهوذا شراءه على رجل منهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين‏}‏ يعني‏:‏ الذين اشتروه لم يعلموا بحاله وقصته‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف، في ثمنه لم يكونوا محتاجين إليه‏.‏ ثم إن مالك بن ذعر، لما أدخله مصر باعه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ باعه بعشرين ديناراً، ونعلين، وحلة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ بعشرين درهماً، ونعلين، وحلة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ باعه بوزنه فضة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ باعه بوزنه ذهباً‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ باعه مالك بن ذعر، بعدما عرضه في بيع «من يزيد»، ثلاثة أيام، فزاد الناس بعضهم على بعض، حتى بلغ ثمنه بحيث لا يقدر أحد عليه، فاشتراه عزيز مصر، وكان خازن الملك وصاحب جنوده لامرأته زليخا، بوزنه مرة مسكاً، ومرة لؤلؤاً، ومرة ذهباً، ومرة فضة، ومرة حللاً، وسلم إليه كلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان اسمه قطيفر، وهو العزيز، قال لامرأته، واسمها‏:‏ زليخا ‏{‏أَكْرِمِى مَثْوَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ منزله وولايته ‏{‏عسى أَن يَنفَعَنَا‏}‏ في ضياعنا وغلاتنا، على وجه التبرك به ‏{‏أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا‏}‏ يقول‏:‏ نتبناه فيكون ابناً لنا‏.‏ وروى ابن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ أفرس الناس ثلاثة‏:‏ العزيز، حين قال لامرأته ‏{‏أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا‏}‏ وبنت شعيب التي قالت ‏{‏قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الأمين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 26‏]‏ وأبو بكر، حين تفرَّس في عمر وولاه من بعده‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ في أرض مصر، وهي أربعين فرسخاً في أربعين فرسخاً ‏{‏وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث‏}‏ يعني‏:‏ كي يلهمه تعبير الرؤيا، وغير ذلك من العلوم، ‏{‏والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ‏}‏ إذا أمر بشيء، لا يقدر أحد أن يرد أمر الله تعالى، إذا أراد بأحد من خلقه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏والله * تَعَالَى ***** غَالِبٌ على أَمْرِهِ‏}‏، يعني‏:‏ وليته فيتم أمر يوسف، الذي هو كائن ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أهل مصر‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ أهل مكة لا يعلمون أن الله تعالى غالب على أمره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ تمت قوة نفسه، وعقله‏.‏ ويقال‏:‏ بلغ مبلغ الرجال‏.‏ ويقال‏:‏ الأشد بلوغ ثلاثين سنة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ بلغ ثلاثاً وثلاثين سنة‏.‏ ويقال الأشد‏:‏ ما بين ثماني عشرة سنة، إلى ثمان وثلاثين سنة ‏{‏اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ أي‏:‏ أكرمناه بالنبوة، والعلم، والفهم، والفقه، فجعلناه حكيماً، وعليماً، ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ يعني‏:‏ هكذا نكافئ من أحسن‏.‏ ويقال‏:‏ هكذا نجزي المخلصين في العمل، بالفهم والعلم‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ راودته عما أرادت عليه، مما تريد النساء من الرجال، فعلم بذكره ذكر الفاحشة، ومعناه‏:‏ طلبت إليه أن يمكنها من نفسه، يعني‏:‏ امرأة العزيز واسمها زليخا ‏{‏وَغَلَّقَتِ الابواب‏}‏ عليها، وعلى يوسف، وجعلت تغره وتمازحه، ويوسف يعظها بالله، ويزجرها‏.‏ ويروى عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ كان يوسف إذا تبسم، رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم، رأيت شعاع النور في كلامه، يذهب من بين يديه، ولا يستطيع آدمي أن ينعت نعته‏.‏ فقالت له‏:‏ يا يوسف ما أحسن عينيك قال‏:‏ هما أول شيء يسيلان إلى الأرض من جسدي‏.‏ ثم قالت‏:‏ يا يوسف ما أحسن ديباج وجهك قال‏:‏ هو للتراب يأكله‏.‏ ثم قالت‏:‏ يا يوسف ما أحسن شعرك قال‏:‏ هو أول ما ينتشر من جسدي‏.‏ ‏{‏وَقَالَتِ‏}‏‏:‏ يا يوسف، ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏‏.‏

قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، ‏{‏هَيْتَ‏}‏ بنصب الهاء والتاء، يعني‏:‏ أقبل، ويقال‏:‏ هلم إليّ، والعرب تقول‏:‏ هيت فلان لفلان، إذا دعاه وصاح به، وهكذا قرأ ابن مسعود وابن عباس والحسن، وقرأ ابن عامر في رواية هشام ‏{‏***هِئْتُ‏}‏ بكسر الهاء والهمز وضم التاء، بمعنى تهيأت لك، وقرأ ابن كثير ‏{‏وَقَالَتْ هَيْتَ‏}‏ لك بنصب الهاء وضم التاء، ومعناه أنا لك، وأنا فداؤك، وقرأ نافع وابن عامر في إحدى الروايتين ‏{‏هَيْتَ‏}‏ بكسر الهاء ونصب التاء، بغير همز‏.‏ ‏{‏قَالَ مَعَاذَ الله‏}‏ يعني‏:‏ قال يوسف‏:‏ أعوذ بالله أن أعصيه وأخونه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ‏}‏ يعني‏:‏ إن سيدي الذي اشتراني أحسن إكرامي، فلم أكن لأفعل بامرأته ذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ يعني‏:‏ لا ينجو الزناة من عذاب الله تعالى، وفي هذه الآية دليل أن معرفة الإحسان واجب، لأن يوسف امتنع عنها لأجل شيئين لأجل المعصية والظلم، ولأجل إحسان الزوج إليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا‏}‏ روى حماد بن سلمة، عن الكلبي أنه قال‏:‏ كان من همها أنها دعته إلى نفسها واضجعت وهَمَّ بها بالموعظة والتخويف من الله تعالى، وقيل إنه حلَّ سراويله، وجلس بين رجليها ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‏}‏ يقول‏:‏ مثل له يعقوب في الحائط عاضاً على شفتيه، فاستحيى، فتنحى بنفسه، وقال وهب بن منبه‏:‏ لم تزل تخدعه حتى همَّ بها، ودخل معها في فراشها، فنودي من السماء‏.‏ مهلاً يا يوسفُ فإنك لو وقعت في الخطيئة محي اسمك عن ديوان النبوة‏.‏ وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن قوله ‏{‏لَقَدِ *** هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا‏}‏ ما بلغ من همه‏؟‏ قال‏:‏ أطلق هميانه فنودي يا يوسف لا تكن كالطائر له ريش فزنى، فسقط ريشه‏.‏ ويقال‏:‏ كان همها هم إرادة وشهوة، وهمه همّ اضطرار وغلبة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كان همه حديث النفس والفكر، وحديث النفس والفكر مرفوعان‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏هُمْ * بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ يضربها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يعني‏:‏ هم بالفرار عنها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ‏}‏ تم الكلام، ثم ‏{‏وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‏}‏ يعني‏:‏ لما رأى البرهان لم يهم بها، فقد قيل هذه الأقاويل، والله أعلم‏.‏ وقد روي في الخبر أنه ليس من نبي إلا وقد أخطأ أو همَّ بخطيئة غير يحيى بن زكريا، ولكنهم كانوا معصومين من الفواحش‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‏}‏ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال‏:‏ مثل له يعقوب، فضرب بيده على صدره، فخرجت شهوته من أنامله‏.‏

وقال محمد بن كعب ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‏}‏ قال‏:‏ لولا أن قرأ القرآن من تحريم الزنى، وذلك أنه استقبل بكتاب لله تعالى ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏‏.‏

قال الله تعالى ‏{‏كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء‏}‏ يقول‏:‏ هكذا صرفت السوء والفحشاء عن يوسف بالبرهان، حين استعاذ إليّ بقوله‏:‏ معاذ الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين‏}‏ بالتوحيد والطاعة‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏المخلصين‏}‏ بكسر اللام، ومعناه ما ذكرناه‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏المخلصين‏}‏ بالنصب، يعني‏:‏ المعصومين من الذنوب والفواحش، ويقال‏:‏ أخلصه الله تعالى بالنبوة والرسالة والإسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏26‏)‏ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏27‏)‏ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستبقا الباب‏}‏ يعني‏:‏ تبادرا إلى الباب، يعني‏:‏ يوسف وزليخا‏.‏ أما يوسف، فاستبق ليخرج من الباب، وأما زليخا فاستبقت لتغلق الباب على يوسف، فأدركته قبل أن يخرج، فتعلقت به قبل أن يخرج من الباب‏.‏ ‏{‏وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ‏}‏ يعني‏:‏ مزقت قميصه من خلفه‏.‏ ‏{‏وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا‏}‏ يعني‏:‏ صادفَ، ووجدا سيدها ‏{‏لدى الباب‏}‏ يعني‏:‏ زوجها عند الباب‏.‏ ‏{‏قَالَتْ‏}‏ زليخا لزوجها‏:‏ ‏{‏مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا‏}‏ يعني‏:‏ قالت لزوجها‏:‏ ‏{‏مَا جَزَاء‏}‏، يعني‏:‏ ما عقاب ‏{‏مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا‏}‏ يعني‏:‏ قصد بها الزنى ‏{‏إِلا أَن يُسْجَنَ‏}‏ يعني‏:‏ يحبس في السجن‏.‏ ‏{‏أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ يضرب ضرباً وجيعاً، وذلك أن الزوج قال لهما ما شأنكما‏؟‏ قالت له زليخا‏:‏ كنت نائمة في الفراش عريانة، فجاء هذا الغلام العبراني، وكشف ثيابي، وراودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي، فانشق قميصه‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ يوسف‏:‏ بل ‏{‏هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى‏}‏ يعني‏:‏ دعتني إلى نفسها ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ قميصه شاهد أنه قَدْ قُدَّ من دبر فظهر أن الذنب لها بتلك العلامة‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان صبي في المهد لم يتكلم بعد فتكلم، وقال ‏{‏إِن كَانَ * قَدْ ***** قَمِيصَهُ مِن ***** قَبْلُ‏}‏ الآية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان رجلاً حكيماً من أهلها‏.‏ ويقال‏:‏ كان رجلاً من خواصِّ الملك‏.‏ وروي عن عكرمة أنه قيل له إنه صبي قال‏:‏ لا، ولكنه رجل حكيم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان رجلاً له رأي، فقال برأيه‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان زوجها على الباب مع ابن عم لها يقال له ممليخا، وكان رجلاً حكيماً، فقال‏:‏ قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب، ولا ندري أيكما قدام صاحبه‏؟‏ إن كان قد شقّ القميص من قدامه فأنت صادقة فيما قلت، وإن كان مشقوقاً من خلفه فهو صادق، فنظروا إلى قميصه، فإذا هو مشقوق من خلفه، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ‏}‏ يعني‏:‏ زليخا ‏{‏وَهُوَ‏}‏ يعني‏:‏ يوسف ‏{‏مِنَ الكاذبين‏}‏‏.‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ‏}‏، يعني‏:‏ زليخا ‏{‏وَهُوَ‏}‏ يعني‏:‏ يوسف ‏{‏مِنَ الصادقين‏}‏ وذلك أن الرجل لا يأتيها إلا مقبلاً‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ‏}‏ يعني‏:‏ مقدوداً من دبر ‏{‏قَالَ‏}‏ ابن العم ‏{‏إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ صنيعكن، ويقال قال الزوج‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ صنيعكن عظيم يخلص إلى البريء والسقيم والصالح والطالح‏.‏ وفي هذه الآية دليل أن القضاء بشهادة الحال جائز وقال بعض الحكماء‏:‏ سمى الله كيد الشيطان ضعيفاً، وسمى كيد النساء عظيماً لأن كيد الشيطان بالوسوسة والخيال، وكيد النساء بالمواجهة والعيان‏.‏

ثم أقبل على يوسف فقال‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا‏}‏ يعني‏:‏ يا يوسف أعرض عن هذا القول، ولا تذكره، واكتم هذا الحديث‏.‏

ثم أقبل عليها فقال‏:‏ ‏{‏واستغفرى لِذَنبِكِ‏}‏ يعني‏:‏ توبي وارجعي عن ذنبك، ويقال ابن عمها هو الذي قال لها‏:‏ واستغفري لذنبك، يعني‏:‏ اعتذري إلى زوجك من ذنبك‏.‏ ‏{‏إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين‏}‏ يعني‏:‏ من المذنبين‏.‏ وفشا ذلك الخبر في مصر وتحدثت النساء فيما بينهن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المدينة‏}‏ قال الكلبي‏:‏ ‏(‏هنَّ‏)‏ أربع نسوة امرأة ساقيه يعني‏:‏ ساقي الملك، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب السجن، وامرأة صاحب الدوابّ‏.‏ ويقال هن خمس، خامستهن امرأة صاحب الملك‏.‏ ويقال‏:‏ أربعون امرأة‏.‏ ويقال‏:‏ جماعة كثيرة من النساء اجتمعت في موضع، وقلن فيما بينهنّ ‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المدينة امرأت العزيز‏}‏ يعني‏:‏ تطلب عبدها وتدعوه إلى نفسها‏.‏ ‏{‏قَدْ شَغَفَهَا حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ قال‏:‏ الحسن أي شق شغاف قلبها حبه‏.‏ وقال عامر الشعبي‏:‏ الشغوف المحب، والمشغوف المحبوب‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ‏{‏قَدْ شَغَفَهَا حُبّا‏}‏ بلغ الحب شغافها، وهو غلاف القلب، قال‏:‏ ومن قرأ شغفها أي فتنها من قولك فلان شغوف بفلانة‏.‏ ويقال‏:‏ شغف الشيء إذا علاه ‏{‏قَدْ شَغَفَهَا‏}‏ أي علاها‏.‏ ويقال‏:‏ أهلكها، فلا تعقل غيره ‏{‏إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ في خطأ بيّن‏.‏ ويقال‏:‏ في عشق بيّن‏.‏ أي‏:‏ لا تعقل غيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ‏}‏ يعني‏:‏ سمعت زليخا بمقالتهن‏.‏ وإنما سمَّي قولهنّ مكراً والله أعلم، لأن قولهن لم يكن على وجع النصيحة، والنهي عن المنكر‏.‏ ولكن كان على وجه الشماتة والتعيير‏.‏ ‏{‏أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ‏}‏ فدعتهن ‏{‏***وَأعَدَّتْ لَهُنَّ متكأ‏}‏ أي‏:‏ اتخذت لهن وسائد يتكين عليها‏.‏ وذلك أنها اتخذت ضيافة، ودعت النساء، ووضعت الوسائد لجلوسهن‏.‏ وقال الفراء‏:‏ من قرأ متكاً غير مهموز فإنه الأترج‏.‏ وكذلك قال ابن عباس‏.‏

روى منصور عن مجاهد أنه قال‏:‏ من قرأ مثقلة قال‏:‏ يعني‏:‏ الطعام، ومن قرأ‏:‏ مخففة قال الأترج‏.‏ ويقال‏:‏ الزُّمَّاوَرْد وهو نوع من التمر‏.‏ وقال عكرمة كل شيء يقطع بالسكين ‏{‏فِى ضلال مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ‏}‏ يعني‏:‏ أعطت زليخا كل واحدة من النسوة سكيناً، وأمرت يوسف بأن يلبس أحسن ثيابه، وزيّنته أحسن الزينة ‏{‏وَقَالَتِ‏}‏ له ‏{‏اخرج عَلَيْهِنَّ‏}‏ يعني‏:‏ اخرج على النساء فخرج عليهن‏.‏ روى أبو الأحوص عن ابن مسعود قال‏:‏ أوتي يوسف وأمه ثلث حسن الناس، في الوجه، والبياض، وغير ذلك‏.‏ وكانت المرأة إذا رأت يوسف، غطّى وجهه مخافة أن تفتن به‏.‏ فلما خرج يوسف إلى النسوة غطى نفسه فنظرن إليه ‏{‏فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ‏}‏ يقول‏:‏ أعظمنه‏.‏ أي‏:‏ أعظمن شأنه، وتحيرن، وبقين مدهوشات، طائرة عقولهن، ‏{‏وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ‏}‏ يقول‏:‏ حززن، وخدشن أيديهن بالسكين، ولم يشعرن بذلك ‏{‏وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ معاذ الله ‏{‏مَا هذا بَشَرًا‏}‏ قرأ بعضهم‏:‏ بالرفع‏.‏ وقرأ بعضهم ‏{‏مَا هذا‏}‏ يعني‏:‏ مثل هذا لا يكون بشراً‏.‏ وقراءة العامة ما هذا بشراً بنصب الراء والتنوين، لأنه خبر «ما»‏.‏ ولأنه صار نصباً لنزع الخافض‏.‏ ومعناه‏:‏ ‏{‏للَّهِ مَا هذا بَشَرًا‏}‏ يعني‏:‏ مثل هذا لا يكون آدمياً ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ على ربه‏.‏

فإن قيل‏:‏ إنهن لم يرين الملك فكيف شبّهنه بشيء لم يرينه‏؟‏ قيل له‏:‏ لأن المعروف عند الناس، أنهم إذا وصفوا أحداً بالحسن، يقولون‏:‏ هذا يشبه الملك، وإن لم يروا الملائكة، كما أنهم إذا وصفوا أحداً بالقبح، يقولون‏:‏ هو كالشيطان، وإن لم يروا الشيطان‏.‏ قرأ أبو عمرو ‏{‏يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ بالألف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بغير ألف‏.‏ وكذلك الذي بعده ‏{‏قَالَتْ‏}‏ زليخا للنسوة ‏{‏فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ‏}‏ يقول‏:‏ عذلتنني فيه وعبتنني فيه فهل عذرتنني‏؟‏ فقلن لها‏:‏ أنت معذورة‏.‏ قالت‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ طلبت إليه أن يمكنني من نفسه ‏{‏فاستعصم‏}‏ أي فامتنع بنفسه مني ‏{‏وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ‏}‏ يعني‏:‏ احبسنه في السجن ‏{‏وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين‏}‏ يعني‏:‏ من المهانين بالسجن‏.‏ ويقال‏:‏ مذللين‏.‏ وقرأ بعضهم ‏{‏لَّيَكُونُنَّ‏}‏ بتشديد النون وهذا خلاف مصحف الإمام‏.‏ وقراءة العامة‏:‏ ‏{‏وَلَيَكُونًا‏}‏ لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف بالألف‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ‏}‏ يقول‏:‏ يا سيدي ‏{‏السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى‏}‏ النسوة ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ من العمل القبيح‏.‏ قرأ بعضهم ‏{‏قَالَ رَبّ السجن‏}‏ بنصب السين على معنى المصدر‏.‏ يقال‏:‏ سجنته سَجْناً وهي قراءة شاذة‏.‏ وقراءة العامة بالكسر يعني‏:‏ نزول بيت السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، يعني به‏:‏ امرأة العزيز خاصة‏.‏ ويقال‏:‏ أراد به النسوة اللاتي حضرن هناك، لأنهن قلن له‏:‏ أطع مولاتك، ولا تخالفها، فإن لها عليك حقاً‏.‏ وقد اشترتك بمالها وهي تحسن إليك، وتحبك، وتطلب هواك‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ‏}‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ لو أنه قال‏:‏ رب العافية أحَبُّ إليّ، لعافاه الله تعالى‏.‏ ولكن لما نجا بدينه، لم يبال بما أصابه في الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ إذا لم تصرف عني عملهن وشرهن ‏{‏أَصْبُ إِلَيْهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ أمل إليهن ‏{‏وَأَكُن مّنَ الجاهلين‏}‏ يعني‏:‏ من المذنبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجاب لَهُ رَبُّهُ‏}‏ فيما دعاه ‏{‏فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ فعلهن، وشرهن‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع العليم‏}‏ يسمع لمن دعاه‏.‏ يعني‏:‏ ‏{‏السميع‏}‏ للدعاء فيما دعاه يوسف ‏{‏العليم‏}‏ به‏.‏

ثم إن المرأة قالت لزوجها‏:‏ إن هذا الغلام العبراني لا ينقطع عني، وقد فضحني في الناس، يعتذر إليهم ويخبرهم، أنني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري‏.‏ فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس، وأخبرهم بحالي‏.‏ وإما أن تحبسه حتى ينقطع حديثه فذلك قوله تعالى ‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات‏}‏ يعني‏:‏ ثم بدا للزوج من بعد ما رأى شق القميص، وقضاء ابن عمها بينهما ‏{‏لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ سجنه خمس سنين‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ إلى يوم من الأيام وإلى وقت من الأوقات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ‏}‏ يعني‏:‏ حبس معه في السجن الخباز، والساقي‏.‏ عبدان للملك غضب عليهما‏.‏ يعني‏:‏ صاحب شرابه، وصاحب مطعمه ‏{‏قَالَ أَحَدُهُمَا‏}‏ ليوسف ‏{‏إِنّى أَرَانِى‏}‏ في المنام ‏{‏أَعْصِرُ خَمْرًا‏}‏ يعني‏:‏ عنباً بلغة عمان‏.‏ قال الضحاك‏:‏ إن ناساً من العرب يسمون العنب خمراً‏.‏ ويقال‏:‏ معناه أعصر العنب الذي يكون عصيره خمراً، وذلك أنه قال‏:‏ رأيت في المنام، كأني دخلت كرماً فيه حبلة حسنة، فيها ثلاث من القضبان، وفي القضبان ثلاثة عناقيد، عنب قد أينع، وبلغ، فأخذته وعصرته في الكأس، ثم أتيت به الملك فسقيته‏.‏

‏{‏وَقَالَ الآخر إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا‏}‏ يقول‏:‏ رأيت في المنام، كأني أحمل فوق رأسي ثلاث سلال خبزاً ‏{‏تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ يقول‏:‏ أخبرنا بتفسير هذه الرؤيا ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ أي‏:‏ من الموحدين‏.‏ وذلك أنه ينصر المظلوم، ويعين الضعيف، وكان يداوي مرضاهم، ويعزي مكروبهم‏.‏ فإذا احتاج واحد منهم، قام وجمع له شيئاً‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ يعني‏:‏ من الصادقين في القول‏.‏ ويقال‏:‏ كان متعبداً لربه‏.‏ ويقال‏:‏ كان أهل السجن يجتمعون عنده، ويسألونه أشياء، فيخبرهم‏.‏ فقالا‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ يعني‏:‏ نراك عالماً، وقد أحسنت العلم ‏{‏قَالَ‏}‏ لهما يوسف عليه السلام ‏{‏لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ‏}‏ يعني‏:‏ تطعمانه ‏{‏إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ يقول‏:‏ أخبرتكما بتفسيره، وألوانه ‏{‏قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا‏}‏ الطعام‏.‏ وإنما أراد بذلك، أن يبيّن لهما علامة نبوته‏.‏ وهذا مثل قول عيسى عليه السلام لقومه‏:‏ ‏{‏وَرَسُولاً إلى بنى إسراءيل أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أنى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئ الاكمه والابرص وَأُحْىِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏ فلما أخبر يوسف بذلك، قالا وكيف تعلم ولست بساحر، ولا عرّاف، ولا كاهن‏؟‏ قال يوسف‏:‏ ‏{‏ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى‏}‏ أراد أن يبيّن لهما علامة نبّوته لكي يسلما‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنّى تَرَكْتُ‏}‏ يعني‏:‏ تبرأت من ‏{‏مِلَّةَ قَوْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ دين قوم ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ أي‏:‏ لا يصدّقون بوحدانيته ‏{‏وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون‏}‏ يعني‏:‏ بالبعث جاحدون‏.‏ ثم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ يعني‏:‏ دينهم ‏{‏مَا كَانَ لَنَا‏}‏ أي‏:‏ ما جاز لنا ‏{‏أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَئ‏}‏ من الآلهة ‏{‏ذلك مِن فَضْلِ الله‏}‏ يعني‏:‏ ويقال ذلك الإرسال، الذي أرسل إليه بالنبوة من فضل الله ‏{‏وَعَلَيْنَا *** وَعَلَى الناس‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس‏}‏ يعني‏:‏ أهل مصر ‏{‏لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ النعمة‏.‏

ثم دعاهما إلى الإسلام فقال‏:‏ ‏{‏يَشْكُرُونَ ياصاحبى السجن‏}‏ يعني‏:‏ الخباز والساقي ‏{‏مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ‏}‏ أي‏:‏ الآلهة وعبادتها ‏{‏خَيْرٌ أَمِ‏}‏ عبادة ‏{‏الله الواحد القهار‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ أي‏:‏ من الآلهة ‏{‏لاَ يَعْلَمُونَ ياصاحبى السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاخر‏}‏ يعني‏:‏ لا عذر، ولا حجة لعبادتكم إياها، ‏{‏إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ‏}‏ ما القضاء في الدنيا والآخرة إلا لله ‏{‏أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ يعني‏:‏ أمر في الكتاب أن لا تطيعوا في التوحيد إلا إياه ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ يعني‏:‏ التوحيد الدين المستقيم وهو دين الإسلام الذي لا عوج فيه ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس‏}‏ يعني‏:‏ أهل مصر ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن دين الله هو الإسلام‏.‏

ثم أخبرهما بتأويل الرؤيا، بعد ما نصحهما ودعاهما إلى الإسلام، وأخذ عليهما الحجة، فقال‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ ياصاحبى السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا‏}‏ وهو الساقي‏.‏ قال له يوسف‏:‏ تكون في السجن ثلاثة أيام، ثم تخرج، فتكون على عملك، وتسقي سيدك خمراً‏.‏ قراءة العامة ‏{‏فَيَسْقِى‏}‏ بنصب الياء‏.‏ يقال‏:‏ سَقَيْتُهُ إذا ناولته‏.‏ وقرأ بعضهم ‏{‏فَيَسْقِى‏}‏ من أسقيته إذا جعلت له ساقياً‏.‏ يعني‏:‏ تتخذ الشراب الذي يسقي الملك‏.‏

ثم بيّن تأويل رؤيا الآخر فقال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الاخر‏}‏ وهو الخباز ‏{‏فَيُصْلَبُ‏}‏ يعني‏:‏ يخرج من السجن بعد ثلاثة أيام ويصلب ‏{‏فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ‏}‏‏.‏ فلما أخبرهما يوسف بتأويل الرؤيا، قالا‏:‏ ما رأينا شيئاً فقال لهما يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏ يعني‏:‏ تسألان‏.‏ رأيتماها أو لم ترياها، قلتما لي، وقلت لكما، فكذلك يكون‏.‏ وروى إبراهيم النخعي عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ إنهما كانا تحالما ليجرّباه‏.‏ فلما أوَّلَ رؤياهما، قالا‏:‏ إنما كنا نلعب، قال يوسف‏:‏ ‏{‏قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا‏}‏ يعني‏:‏ قال يوسف عليه السلام للذي علم أنه ينجو من السجن والقتل، وهو الساقي ‏{‏اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏ قال يوسف للساقي‏:‏ إذا دعاك الملك، وسقيته، فاذكرني عنده إني مظلوم قد عدا عليّ إخوتي فباعوني‏.‏ ‏{‏فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبّهِ‏}‏ يعني‏:‏ أنسى الشيطان يوسف أن يستغيث بالله، فاستغاث بالملك، وقال الفراء‏:‏ أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنْسَاهُ الشيطان‏}‏ قال‏:‏ هو يوسف‏.‏ أنساه الشيطان ذكر ربه، وأمره بذكر الملك، وابتغى الفرج من عنده ‏{‏فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏‏.‏

وروى معمر عن قتادة أنه قال‏:‏ بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لَوْ لَمْ يَسْتَعِنْ يُوسُفُ عَلَى رَبِّهِ، لَمَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ»‏.‏ وروي عن أبي عبيدة أنه قال‏:‏ البضع ما دون نصف العقد‏.‏ يعني‏:‏ من واحد إلى أربعة‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ ما بين الثلاث إلى التسع‏.‏ هكذا قال قطرب، والسدي‏.‏ وروى منصور عن مجاهد قال‏:‏ البضع ما بين الثلاث إلى التسع‏.‏ وذكر عبد العزيز بن عمير الكندي، أن يوسف رأى جبريل في السجن‏.‏ فقال له‏:‏ يا أبا المنذرين، ما لي أراك بين الخاطئين‏؟‏ فقال له جبريل‏:‏ يا طاهر الطاهرين، رب العزة يُقْرِئُكَ السلام، ويقول‏:‏ أما استحيت مني إذ استغثت بالآدميين، فبعزتي لألبثنك في السجن بضع سنين‏.‏ قال بعضهم‏:‏ يعني سبع سنين، سوى الخمس الذي مكث فيه‏.‏ وذلك اثنتا عشرة سنة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ جميع ما أقام فيه سبع سنين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ثماني عشرة سنة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن الملك رأى في المنام، واسم الملك ريان بن الوليد فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملك إِنّى أرى‏}‏ يعني‏:‏ رأيت في المنام ‏{‏سَبْعَ بقرات سِمَانٍ‏}‏ خرجن من نهر مصر ‏{‏يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ‏}‏ بقرات ‏{‏عِجَافٌ‏}‏ هزلى، فابتلع العجاف السمان، فدخلن في بطونهن، فلم يرَ منهنّ شيء، ورأيت ‏{‏وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات يأَيُّهَا *** أَيُّهَا *** الملا‏}‏ يعني‏:‏ العرافين، والسحرة، والكهنة، ‏{‏أَفْتُونِى فِى رؤياى‏}‏ يعني‏:‏ عبروا رؤياي، وبيّنوا تفسيرها ‏{‏إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تفسرون ‏{‏قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ‏}‏ يعني‏:‏ أباطيل الأحلام مختلطة ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاحلام بعالمين‏}‏ يعني‏:‏ ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل‏.‏ وقال أهل اللغة كل رؤيا لا تأويل لها، فهي ‏{‏أضغاث أَحْلاَمٍ‏}‏ أي‏:‏ أباطيل الأحلام واحدها ضغث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا‏}‏ وهو الساقي ‏{‏وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ تذكر بعد حين‏.‏ يعني‏:‏ بعد سبع سنين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصل ادكر اذكر‏.‏ ولكن التاء أبدلت بالدال وأدغم الذال في الدال‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الأمة الصنف من الناس، والجماعة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَئ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ ثم تستعمل الأمة في الأشياء المختلفة‏.‏ يقال للإمام‏:‏ أمة كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏ لأنه سبب للاجتماع‏.‏ ويسمى الدين أمة كقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏ أي‏:‏ على دين، لأن القوم يجتمعون على دين واحد، فيقام ذلك اللفظ مقامه‏.‏ ويسمى الحين أمة كقوله‏:‏ ‏{‏وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 8‏]‏ وإنما سمي الحين أمة أيضاً، لأن الأمة من الناس ينقرضون في حين، فيقام الأمة مقام الحين وقرأ بعضهم ‏{‏وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ بَعْدَ بعُدَ نسيانٍ يقال‏:‏ أمَهْتُ أي‏:‏ نسيت‏.‏ وقال الفراء‏:‏ يقال رجل مأموه، كأنه ليس معه عقل فلما تذكر الساقي حال يوسف، جاء وجثا بين يدي الملك، وقال‏:‏ ‏{‏أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بتأويل ما رأيت من الرؤيا‏.‏ وروي عن الحسن‏:‏ أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏أَنَاْ *** ءاتِيكُمْ *** بِتَأْوِيلِهِ‏}‏، وقراءة العامة ‏{‏أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ فقال‏:‏ وما يدريك يا غلام، ولست بمعبّر، ولا كاهن‏؟‏ فقصَّ عليه أمره الذي كان وقت كونه في السجن برؤيته، وتعبير يوسف لها، وصدق تعبيره على نحو ما وصفه له‏.‏ وأخبره بحال يوسف وحكمته، وعلمه، وفهمه، ‏{‏فَأَرْسِلُونِ‏}‏ يعني‏:‏ أرسلوني أيها الملك إلى يوسف‏.‏ خاطبه بلفظ الجماعة، كما يخاطب الملوك‏.‏ فأرسله الملك‏.‏ فلما جاء إلى يوسف في السجن، ودخل عليه، واعتذر إليه بما أنساه الشيطان ذكر ربه، وقال‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق‏}‏ والصديق كثير الصدق‏:‏ يعني‏:‏ أيها الصادق فيما عبرت لنا ‏{‏أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ‏}‏ هزلى ‏{‏وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس‏}‏ يعني‏:‏ إلى أهل مصر ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ قَدْرك، ومنزلتك‏.‏ ويقال‏:‏ إلى الناس، يعني إلى الملك، لكي يعلم مكانك، فيكون ذلك سبباً لخلاصك إذا علم تعبير رؤياه‏.‏ فعبر يوسف ورؤياه وهو في السجن، فقال‏:‏ أما السبع البقرات السمان، فهي سبع سنين خصب‏.‏ أما السبع العجاف، فهي سبع سنين شدة وقحط، ولا يكون في أرض مصر البر‏.‏ وأما السبع السنبلات الخضر، فهي الخصب، واليابسات هي القحط‏.‏

‏{‏قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا‏}‏ يعني‏:‏ ازرعوا لسبع سنين ‏{‏دَأَبًا‏}‏ يعني‏:‏ دائماً ‏{‏فَمَا حَصَدتُّمْ‏}‏ من الزرع ‏{‏فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ في كعبره‏.‏ فهو أبقى لكم، لكي لا يأكله السوس إذا كانت في الكعبرة، ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تدرسون بقدر ما تحتاجون إليه، فتأكلون‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ الخصب ‏{‏سَبْعٌ شِدَادٌ‏}‏ يعني‏:‏ مجدبات ‏{‏يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ للسنين‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مَا قَدَّمْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما جمعتم ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تدّخرون، وتحرزون‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ القحط ‏{‏عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس‏}‏ يعني‏:‏ يمطر الناس‏.‏ والغيث‏:‏ المطر‏.‏ ويقال‏:‏ هو من الإغاثة يعني‏:‏ يغاثون بسعة الرزق ‏{‏وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ينجون من الشدة ويقال يعصرون العنب، والزيتون‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏***تَعْصِرُونَ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة‏.‏ وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة‏.‏ يعني‏:‏ الناس وقرأ بعضهم ‏{‏وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏ بضم الياء، ونصب الصاد، يعني‏:‏ يمطرون من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 14‏]‏ فرجع الساقي إلى الملك، وأخبره بذلك، ‏{‏وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ كان الملك رأى الرؤيا، ونسيها، فأتاه يوسف، فأخبره بما رأى، وأخبره بتفسيره‏.‏ ولكن في ظاهر الآية، أن الملك كان ذاكراً لرؤياه، وأن يوسف عبّر رؤياه وهو في السجن‏.‏ قبل أن ينتهي إلى الملك ‏{‏وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بيوسف ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُ الرسول‏}‏ برسالة الملك، أنَّ الملك يدعوك ‏{‏قَالَ‏}‏ يوسف للرسول ‏{‏ارجع إلى رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ إلى سيدك وهو الملك ‏{‏فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة *** التى **قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ سله حتى يتبيّن أني مظلوم في حبسي أو ظالم ‏{‏إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ إن سيدي وخالقي، عالم بما كان منهن‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا الخليل بن أحمد‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم الدبيلي‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا أبو عبيد الله، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَوْلا الكَلِمَةُ الَّتِي قَالَ يُوسُفُ ‏{‏لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏ ما لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبَثَ وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَكَرَمِهِ، وصَبْرِهِ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ أنا الَّذِي دُعِيتُ إلى الخُرُوجِ لَبَادَرْتُهُمْ إلى البَابِ، وَلكِنْ أَحَبَّ أنْ يَكُونَ لَهُ العُذْرُ بِقَوْلِهِ ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُ الرسول قَالَ ارجع إلى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة *** التى **قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ‏}‏» قال ابن عباس لو خرج يوسف حين دعي، لم يزل في قلب الملك منه شيء‏.‏ فلذلك ‏{‏قَالَ ارجع إلى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ‏}‏ وذلك أن الملك أرسل إلى النسوة، وجمعهن، ثم سألهنّ فقال‏:‏ ‏{‏مَا خَطْبُكُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ ما حالكن، وشأنكن، وأمركن، ‏{‏إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ طلبت امرأة العزيز إلى يوسف المراودة عن نفسه، هل ليوسف في ذلك ذنب‏؟‏ فأخبرن الملك ببراءة يوسف ‏{‏قُلْنَ حَاشَ للَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ معاذ الله ‏{‏مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء‏}‏ يعني‏:‏ ما رأينا منه شيئاً من الفاحشة، ولم يكن له ذنب‏.‏ فلما رأت امرأة العزيز، أن النسوة شهدن عليها، اعترفت على نفسها، وأقرت بذلك، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتِ امرأت العزيز الئن حَصْحَصَ الحق‏}‏ يعني‏:‏ ظهر الحق، ووضح‏.‏ ويقال‏:‏ استبان‏.‏ قال زجاج‏:‏ هو في اللغة من الحصة أي‏:‏ بانت حصة الحق، وجهته من حصة الباطل، ومن جهته ‏{‏أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ طلبت إليه أن يمكنني من نفسه ‏{‏وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين‏}‏ أي‏:‏ إنه لم يراودني وهو صادق فيما قال ذلك اليوم‏.‏ قال يوسف عند ذلك إنما فَعَلَت ‏{‏ذلك لِيَعْلَمَ‏}‏ العزيز ‏{‏أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏ لم أخن في امرأته، إذا غاب عني، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين‏}‏ يعني‏:‏ لا يرضى عمل الزانين‏.‏ وروى إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح قال‏:‏ ‏{‏ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏ قال‏:‏ هو يوسف لم يخن العزيز في امرأته‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ لما قال يوسف ‏{‏ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏ قال له جبريل عند ذلك‏:‏ ولا يوم هممت بما هممت به‏.‏ قال يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى‏}‏ يعني‏:‏ من الهم الذي هممت به ‏{‏إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء‏}‏ يعني‏:‏ بالمعصية‏.‏ ويقال‏:‏ القلب آمر للجسد بالسوء، والإثم‏.‏ يقال في اللغة‏:‏ إذا أمرت النفس بشيء، هي آمرة‏.‏ وإذا أكثرت الأمر، يقال‏:‏ هي أمارة‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء‏}‏ يعني‏:‏ مائلة إلى الشهوات ‏{‏إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى‏}‏ إلا من عصم الله تعالى من المعصية ‏{‏إِنَّ رَبّى غَفُورٌ‏}‏ للهم الذي هممت به ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ حين تاب عليّ وعصمني وغفر لي‏.‏